سورة الفتح - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفتح)


        


{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)}
{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} أخبرنا عبيد الله بن محمّد الزاهد، أخبرنا أبو العبّاس السرّاج، حدّثنا هنّاد بن السري، حدّثنا يونس بن بكير، حدّثنا علي بن عبد الله التيمي يعني أبا جعفر الرازي، عن قتادة، عن أنس {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} قال: فتح مكّة، وقال مجاهد والعوفي: فتح خيبر، وقال الآخرون: فتح الحديبية.
روى الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: ما كنّا نعدّ فتح مكّة إلاّ يوم الحديبية.
وروى إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكّة، وقد كان فتح مكّة فتحاً، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة. والحديبية بئر.
أخبرنا عقيل بن محمّد الفقيه أنّ أبا الفرج القاضي البغدادي، أخبرهم، عن محمّد بن جرير، حدّثنا موسى بن سهل الرملي، حدّثنا محمّد بن عيسى، حدّثنا مجمع بن يعقوب الأنصاري، قال: سمعت أبي يحدِّث، عن عمّه عبد الرّحمن بن يزيد، عن عمّه، مجمع بن حارثة الأنصاري وكان أحد القرّاء الذين قرأوا القرآن قال: شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا انصرفنا عنها، إذا الناس يهزون الأباعر، فقال بعض النّاس لبعض: ما بال النّاس؟ قالوا: أُوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فخرجنا نوجف، فوجدنا النبي عليه السلام واقفاً على راحلته عند كراع العميم، فلمّا اجتمع إليه الناس، قرأ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً}. فقال عمر: أو فتح هو يا رسول الله؟ قال: «نعم والّذي نفسي بيده إنّه لفتح». فقسم صلى الله عليه وسلم الخمس بخيبر على أهل الحديبية، لم يدخل فيها أحد إلاّ من شهد الحديبية.
أخبرنا الحسين بن محمّد بن منجويه العدل، حدّثنا أبو محمّد عبدالله بن محمّد بن شنبه، حدّثنا عبيدالله بن أحمد الكسائي، حدّثنا الحارث بن عبد الله، أخبرنا هشيم، عن مغيرة، عن الشعبي في قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} قال: فتح الحديبية، غفر له ما تقدّم من ذنبه، وما تأخّر، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدي محلّه، وظهرت الروم على فارس، وفرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس.
وقال مقاتل بن حيان: يسّرنا لك يُسراً بيّناً، وقال مقاتل بن سليمان: لمّا نزل قوله: {وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ} [الأحقاف: 9] فرح بذلك المشركون، والمنافقون، وقالوا: كيف نتّبع رجلاً لا يدري ما يفعل به وبأصحابه، ما أمرنا وأمره إلاّ واحد، فأنزل الله تعالى بعدما رجع من الحديبية {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} أي قضينا لك قضاءً بيّناً.
{لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فنسخت هذه الآية تلك الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: «لقد نزلت عليَّ آية ما يسرّني بها حمر النعم».
وقال الضحاك: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} بغير قتال، وكان الصلح من الفتح، وقال الحسن: فتح الله عليه بالإسلام.
{لِّيَغْفِرَ لَكَ الله} قال أبو حاتم: هذه لام القسم، لما حذفت النون من فعله كسرت اللام ونُصبَ فعلها بسببها بلام كي، وقال الحسين بن الفضيل: هو مردود إلى قوله: {واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} [محمد: 19] {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} و{لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي} وقال محمّد بن جرير: هو راجع إلى قوله: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح * وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره} [النصر: 1-3] {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ} قبل الرسالة {وَمَا تَأَخَّرَ} إلى وقت نزول هذه السورة.
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمّد بن عبدالله الحافظ، حدّثنا أبو عمرو عثمان بن عمر ابن حقيف الدرّاج، حدّثنا حامد بن شعيب، حدّثنا شريح بن يونس، حدّثنا محمّد بن حميد، عن سفيان الثوري {مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ} ما عملت في الجاهلية {وَمَا تَأَخَّرَ} كلّ شيء لم تعمله.
وقال عطاء بن أبي مسلم الخرساني: {مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِك} يعني ذنب أبويك آدم وحوّاء ببركتك {وَمَا تَأَخَّرَ} ديوان أُمّتك بدعوتك. سمعت الطرازي يقول: سمعت أبا القاسم النصر آبادي يقول: سمعت أبا علي الرودباري بمصر يقول: في قول الله تعالى: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}، قال: لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه.
{وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} أي ويثبتك عليه، وقيل: يهدي بك. {وَيَنصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً} غالباً. وقيل: مُعزّاً. {هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة} الرحمة، والطمأنينة {فِي قُلُوبِ المؤمنين} قال ابن عبّاس: كلّ سكينة في القرآن فهي الطمأنينة إلاّ التي في البقرة.
{ليزدادوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ} قال ابن عبّاس: بعث الله نبيّه صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلاّ الله، فلمّا صدّقوا فيها زادهم الصلاة، فلمّا صدّقوا زادهم الصيام، فلمّا صدّقوا زادهم الزّكاة، فلمّا صدّقوا زادهم الحجّ، ثمّ زادهم الجهاد، ثمّ أكمل لهم دينهم بذلك، وقوله تعالى: {ليزدادوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ} أي تصديقاً بشرائع الإيمان مع تصديقهم بالإيمان.
وقال الضحاك: يقيناً مع يقينهم، وقال الكلبي: هذا في أمر الحديبية حين صدق الله رسوله الرؤيا بالحقّ.
{وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} أخبرنا عبيد الله بن محمّد الزاهد، أخبرنا أبو العبّاس السرّاج، حدّثنا محمّد بن عبد الله بن المبارك، حدّثنا يونس بن محمّد، حدّثنا شيبان، عن قتادة في قوله سبحانه: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} قال أنس بن مالك: إنّها نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد مرجعه من الحديبية، وأصحابه مخالطو الحزن والكآبة، قد حيل بينهم وبين مناسكهم ونحروا بالحديبية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد أُنزلت عليَّ آية هي أحبُّ إليَّ من الدُّنيا جميعاً» فقرأها على أصحابه، فقالوا: هنيئاً مريئاً يا رسول الله، قد بيّن الله تعالى ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى: {لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} قال أهل المعاني: وإنّما كرّر اللام في قوله: {لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات} بتأويل تكرير الكلام مجازه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} إنّا فتحنا لك {لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً * وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظآنين بالله ظَنَّ السوء عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء} أي لن ينصر الله محمّداً صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
{عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء} بالذلّ والعذاب {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً * وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً * إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو أربعتها بالياء واختاره أبو عبيد، قال: لذكر الله المؤمنين قبله، وبعده، فأمّا قبله فقوله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ} وقرأها الآخرون بالتاء واختاره أبو حاتم.
{وَتُعَزِّرُوهُ} وقرأ محمّد بن السميقع بزايين، وغيره بالراء أي لتعينوه، وتنصروه. قال عكرمة: تقاتلون معه بالسيف، أخبرنا علي بن محمّد بن محمّد بن أحمد البغدادي، أخبرنا أبو محمّد عبد الله بن محمّد الشيباني، أخبرنا عيسى بن عبد الله البصري بهراة، حدّثنا أحمد بن حرب الموصلي، حدّثنا القاسم بن يزيد الحرمي، حدّثنا سفيان بن سعيد الثوري، عن يحيى بن سعيد القطان، حدّثنا سفيان بن عينية، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله، قال: لمّا نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم {وَتُعَزِّرُوهُ}، قال لنا: ماذا كُم؟ قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: لتنصروه وَتُوَقِّرُوهُ وتعظّموه وتفخموه. وهاهنا وقف تام.
{وَتُسَبِّحُوهُ} أي وتسبحوا الله بالتنزيه والصلاة. {بُكْرَةً وَأَصِيلاً}.


{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)}
{إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ} يا محمّد بالحديبية على أن لا يفروا {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله}.
أخبرنا ابن منجويه، حدّثنا ابن حبش المقري، حدّثنا محمّد بن عمران، حدّثنا أبو عبد الله المخزومي، حدّثنا سفيان بن عينية، عن عمرو بن دينار إنّه سمع جابراً يقول: كنّا يوم الحديبية ألف وأربعمائة، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم اليوم خير أهل الأرض» قال: وقال لنا جابر: لو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة، وقال: بايعنا رسول الله تحت السمّرة على الموت على أن لا نفرّ، فما نكث أحد منّا البيعة، إلاّ جد بن قيس وكان منافقاً، اختبأ تحت أبط بعيره، ولم يسر مع القوم. {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} قال ابن عبّاس: {يَدُ الله} بالوفاء لما وعدهم من الخير {فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} بالوفاء.
وقال السدي: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وذلك إنّهم كانوا يأخذون بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبايعونه، و{يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} عند المبايعة.
وقال الكلبي: معناه نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا من البيعة، وقال ابن كيسان: قوّة الله ونصرته فوق قوّتهم ونصرتهم.
{فَمَن نَّكَثَ} يعني البيعة {فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} عليه وباله {وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ} قرأ أهل العراق بالياء، وغيرهم بالنون.
{أَجْراً عَظِيماً} وهو الجنّة {سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب} قال ابن عبّاس ومجاهد: يعني أعراب غفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع، وأسلم، والديك، وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكّة عام الحديبية معتمراً استنفر من حول المدينة من الأعراب، وأهل البوادي ليخرجوا معه حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب ويصدّوه عن البيت، وأحرم هو صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدي ليعلم النّاس أنّه لا يريد حرباً، فتثاقل عنه كثير من الأعراب، وقالوا: نذهب معه إلى قوم، قد جاؤوه، فقتلوا أصحابه، فنقاتلهم، فتخلّفوا عنه. واعتلُّوا بالشغل، فأنزل الله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب} الّذين خلّفهم الله عن صحبتك، وخدمتك في حجّتك، وعمرتك إذا انصرفت إليهم، فعاتبتهم على التخلّف عنك.
{شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فاستغفر لَنَا} ثمّ كذّبهم في اعتذارهم واستغفارهم وأخبر عن إسرارهم وإضمارهم، فقال: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً} قرأ حمزة والكسائي وخلف بضمّ الضادّ والباقون بالفتح، واختاره أبو عبيد، وأبو حاتم، قالا: لأنّه قابله بالنفع ضدّ الضرّ.
{أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً * بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء} وذلك بأنّهم قالوا: إنَّ محمّداً وأصحابه أكلة رأس فلا يرجعون، فأين تذهبون؟ انتظروا ما يكون من أمرهم.
{وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} هالكين، فاسدين، لا تصلحون لشيء من الخير. {وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله وَرَسُولِهِ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً * وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوت والأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً * سَيَقُولُ المخلفون} عن الحديبية {إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ} يعني غنائم خيبر {لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} إلى خيبر فنشهد معكم، فقال أهلها: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله} قرأ حمزة والكسائي {كلم الله} بغير ألف، وغيرهم {كلام الله}، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قال الفرّاء: الكلام مصدر، والكلم جمع الكلمة، ومعنى الآية يريدون أن يغيّروا وعد الله الذي وعد أهل الحديبية، وذلك أنّ الله تعالى جعل غنائم خيبر لهم عوضاً من غنائم أهل مكّة، إذا انصرفوا عنهم على صلح، ولم يصيبوا منهم شيئاً، وقال ابن زيد: هو قوله تعالى: {فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً} [التوبة: 83]. والقول الأوّل أصوب، وإلى الحقّ أقرب، لأنّ عليه عامّة أهل التأويل، وهو أشبه بظاهر التنزيل لأنّ قوله: {فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً} [التوبة: 83] نزلت في غزوة تبوك. {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا} إلى خيبر. {كذلكم قَالَ الله مِن قَبْلُ} أي من قبل مرجعنا إليكم: إنّ غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية، ليس لغيرهم فيها نصيب.
{فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أن نصيب معكم من الغنائم. {بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} قال ابن عبّاس، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء الخراساني، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ومجاهد: هم فارس. كعب: الروم. الحسن: فارس، والروم. عكرمة: هوازن. سعيد بن جبير: هوازن، وثقيف. قتادة: هوازن وغطفان يوم حنين. الزهري، ومقاتل: بنو حنيفة أهل اليمامة، أصحاب مُسيلمة الكذّاب.
قال رافع بن جريج: والله لقد كنّا نقرأ هذه الآية فيما مضى {سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} فلا نعلم من هم حتّى دعا أبو بكر رضي الله عنه إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أنّهم هم، وقال أبو هريرة: لم تأت هذه الآية بعد.
{تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} قرأ العامّة يسالمون في محل الرفع عطفاً على قوله: {تُقَاتِلُونَهُمْ}، وفي حرف أُبي {أو يسلموا} بمعنى حتّى يسلموا، كقول امرئ القيس: أو يموت فنعذرا.
{فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ} يعني عام الحديبية {يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وهو النّار. قال ابن عبّاس: فلمّا نزلت هذه الآية قال أهل الزمانة: فكيف بنا رسول الله؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} في التخلّف عن الجهاد، والقعود عن الغزو.
{وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} في ذلك. {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً} قرأ أهل المدينة والشام {يدخله} {ويعذّبه} فيهما بالنون فيهما وقرأ الباقون بالياء فيهما، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قالا: لِذِكر الله تعالى قبل ذلك.
{لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ} بالحديبية على أن يناجزوا قريشاً، ولا يفروا. {تَحْتَ الشجرة} وكانت سمرة، ويروى أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة، فقال: أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول: هاهنا، وبعضهم هاهنا، فلمّا كثر اختلافهم قال: سيروا، هذا التكلف، وقد ذهبت الشجرة، أما ذهب بها سيل وأمّا شيء سوى ذلك. وكان سبب هذه البيعة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن أُمية الخزاعي، فبعثه إلى قريش بمكّة، وحمله على جمل له يقال له: الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له، وذلك حين نزل الحديبية.
فعقروا له جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله فمنعه الأحابيش، فخلّوا سبيله حتّى أتى رسول الله، فدعا رسول الله عليه السلام عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ليبعثه إلى مكّة، فقال: يا رسول الله إنّي أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكّة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إيّاها، وغلظتي عليهم، ولكنّي أدُّلك على رجل هو أعزّ بها منّي، عثمان بن عفّان، فدعا رسول الله عثمان، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب، وإنّما جاء زائراً لهذا البيت، معظّماً لحرمته، فخرج عثمان إلى مكّة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكّة، أو قبل أن يدخلها، فنزل عن دابّته وحمله بين يديه، ثمّ ردفه وأجازه حتّى بلّغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عظماء قريش لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به، فقال: ما كنت لأفعل حتّى يطوف به رسول الله.
فاحتبسته قريش عندهم، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أنّ عثمان قد قُتل، فقال رسول الله: «لا نبرح حتّى نناجز القوم». ودعا الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله على الموت، وقال بكير بن الأشج: بايعوه على الموت، فقال رسول الله عليه السلام: «بل على ما استطعتم».
وقال عبد الله بن معقل: كنت قائماً على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم، وبيدي غصن من السمرة، أذبّ عنه، وهو يبايع النّاس، فلم يبايعهم على الموت، وإنّما بايعهم على أن لا يفرّوا، وقال جابر بن عبدالله: فبايع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم النّاس ولم يتخلّف عنه أحد من المسلمين حضرها إلاّ الجد بن قيس أخو بني سلمة، لكأنّي أنظر إليه لاصقاً بإبط ناقته مستتراً بها من النّاس.
وكان أوّل من بايع بيعة الرضوان رجل من بني أسد يقال له: أبو سنان بن وهب. ثمّ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ الّذي ذُكر من أمر عثمان باطل، واختلفوا في مبلغ عدد أهل بيعة الرضوان، فروى شعبة، عن عمرو بن مُرّة، قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول: كنّا يوم الشجرة ألف وثلاثمائة، وكانت أسلم يومئذ من المهاجرين.
وقال قتادة: كانوا خمسة عشر ومائة. وروى العوفي عن ابن عبّاس، قال: كان أهل البيعة تحت الشجرة ألفاً وخمسمائة وخمسة وعشرون. وقال آخرون: كانوا ألفاً وأربعمائة.
أخبرنا الحسين بن محمّد بن منجويه، حدّثنا علي بن أحمد بن نصرويه، حدّثنا أبو عمران موسى بن سهل بن عبد الحميد الخولي، حدّثنا محمّد بن رمح، حدّثنا الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل النّار أحدٌ ممّن بايع تحت الشجرة».
{فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من الصدق، والصبر، والوفاء. {فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} وهو خيبر {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} وكانت خيبر ذات عقار وأموال. فاقتسمها رسول الله بينهم.
{وَكَان الله عَزِيزاً حَكِيماً * وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} وهي الفتوح التي تفتح لهم إلى يوم القيامة {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} يعني يوم خيبر. {وَكَفَّ أَيْدِيَ الناس عَنْكُمْ} أهل مكّة عنكم بالصلح، وقال قتادة: يعني وكفّ اليهود من خيبر، وحلفاءهم من أسد، وغطفان، عن بيضتكم، وعيالكم، وأموالكم بالمدينة، وذلك أنّ مالك بن عوف النصري، وعيينة بن حصن الفزاري، ومن معهما من بني أسد وغطفان جاءوا لنصرة أهل خيبر فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب فانصرفوا.
{وَلِتَكُونَ} هزيمتهم، وسلامتكم {آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} ليعلموا أنّ الله هو المتولّي حياطتهم، وحراستهم في مشهدهم ومغيبهم. {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} طريق التوكّل، والتفويض حتّى تتقوا في أُموركم كلّها بربّكم، وتتوكّلوا عليه، وقيل: يثبتكم على الإسلام، ويزيدكم بصيرة ويقيناً بصلح الحديبية، وفتح خيبر، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة الحديبية إلى المدينة، أقام بها بقيّة ذي الحجّة، وبعض المحرم، ثمّ خرج في بقيّة المحرم سنة سبع إلى خيبر، واستخلف على المدينة سماع بن عرفطة الغفاري.
أخبرنا عبد الله بن محمّد بن عبد الله الزاهد، قرأه عليه، أخبرنا أبو العبّاس محمّد بن إسحاق السرّاج، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا عثمان بن عمر، أخبرنا ابن عون، عن عمرو ابن سعيد، عن أنس بن مالك، أخبرنا عبيدالله بن محمّد، أخبرنا أبو العبّاس السرّاج، حدّثنا عبد الأعلى بن حمّاد أبو يحيى الباهلي، حدّثنا يزيد بن زريع، حدّثنا عن ابن أبي عروبة، قال: أخبرنا عبيد الله بن محمّد، حدّثنا أبو العبّاس السرّاج، حدّثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدّثنا روح، عن سعيد، عن قتادة عن أنس، قال: كنت رديف أبي طلحة يوم أتينا خيبر، فصبّحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذوا مساحيهم، وفؤوسهم، وغدوا على حرثهم، وقالوا: محمّد والخميس. فقال رسول الله: «الله أكبر هلكت خيبر، إنّا إذا نزلنا ساحة قوم فساء صباح المنذرين». ثمّ نكصوا، فرجعوا إلى حصونهم.
أخبرنا عبيد الله بن محمّد بن عبد الله بن محمّد، حدّثنا أبو العبّاس السرّاج، حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة بن الأكوع.
وأخبرنا عبيد الله بن محمّد، أخبرنا أبو العبّاس السرّاج، حدّثنا أحمد بن يوسف السلمي، حدّثنا النضر بن محمّد، حدّثنا عكرمة بن عمّار، حدّثنا سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: وحدّثت عن محمّد بن جرير، عن محمّد بن حميد، عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن رحالة، قال: وعن ابن جرير، حدّثنا ابن بشار، حدّثنا محمّد بن جعفر، حدّثنا عوف، عن ميمون أبي عبد الله، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، دخل حديث بعضهم في بعض، قالوا:خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر يسير بنا ليلاً، وعامر بن الأكوع معنا، فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هينهاتك؟ وكان عامر شاعراً فنزل يحدو بالقوم وهو يرجز لهم:
* اللهُمَّ لولا أنتَ ما اهتدينا * ولا تصدّقنا ولا صلّينا *
* انّ الذين هم بغوا علينا * ونحن عن فضلك ما استغنينا *
* فاغفر فداء لك ما اقتفينا * وثبّت الأقدام إن لاقينا *
* وألقيَنْ سكينةً علينا * إنّا إذا صيح بنا أتينا *
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ هذا؟». قالوا: عامر بن الأكوع. فقال: «غفر لك ربّك». فقال رجل من القوم: وجبت يا نبي الله، لو امتعتنا به. وذلك أنّ رسول الله عليه السلام ما استغفر قطّ لرجل يخصّه إلاّ استشهد. قالوا: فلمّا قدمنا خيبر وتصافّ القوم، خرج يهودي، فبرز إليه عامر، وقال: قد علمت خيبر إنّي عامر شاك السلاح بطل مغامر فاختلفا ضربتين، فوقع سيف اليهودي في ترس عامر، ووقع سيف عامر عليه، وأصاب ركبة نفسه، وساقه، فمات منها، قال سلمة بن الأكوع: فمررت على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: بطل عمل عامر، فأتيت نبي الله وأنا شاحب أبكي، فقلت: يا رسول الله أبطلَ عمل عامر؟ فقال: «ومَنْ قال ذاك؟» قلت: بعض أصحابك. قال: «كذب من قال، بل له أجره مرّتين، إنّه لجاهد مجاهد».
قال: فحاصرناهم حتّى أصابتنا مخمصة شديدة ثمّ إنّ الله تعالى فتحها علينا، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى اللواء عمر بن الخطّاب، ونهض من نهض معه من الناس، فلقوا أهل خيبر، فانكشف عمر، وأصحابه، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحينه أصحابه، ويحينهم، وكان رسول الله قد أخذته الشقيقة، فلم يخرج إلى النّاس، فأخذ أبو بكر راية رسول الله، ثمّ نهض فقاتل قتالاً شديداً، ثمّ رجع، فأخذها عمر، فقاتل قتالاً شديداً، وهو أشدّ من القتال الأوّل، ثمّ رجع، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أما والله لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله، ورسوله، ويحبّه الله، ورسوله يأخذها عنوة».
وليس ثَمّ علي، فلمّا كان الغد تطاول لها أبو بكر وعمر وقريش رجاء كلّ واحد منهم أن يكون صاحب ذلك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمة بن الأكوع إلى علي، فدعاه، فجاء علي على بعير له حتّى أناخ قريباً من خباء رسول الله، وهو أرمد قد عصب عينيه بشقة برد قطري، قال سلمة: فجئت به أقوده إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله: «ما لكَ؟». قال: رمدت. فقال: «إدن منّي». فدنا منه فتفل في عينيه، فما وجعهما بعد حتّى مضى لسبيله، ثمّ أعطاه الراية، فنهض بالراية وعليه حلّة أُرجوان حمراء، قد أخرج حملها، فأتى مدينة خيبر، وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر معصفر، وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه، وهو يقول: * قد علمت خيبر أنّي مرحب * شاكي السلاح بطلٌ مجرّب *
* أطعن أحياناً * وحيناً أضرب *
*إذا الحروب أقبلت تلهّب * كان حمائي كالحمى لا يقرب *
فبرز إليه علي رضي الله عنه، وقال:
* أنا الّذي سمّتني أُمّي حيدره * كليثِ غابات شديد قسوره *
* أكيلكم بالسيف كيل السندره *
فاختلفا ضربتين، فبدره علي، فضربه، فقدَّ الحجر والمغفرة، وفلق رأسه حتّى أخذ السيف في الأضراس، وأخذ المدينة، وكان الفتح على يديه، ثمّ خرج بعد مرحب أخوه ياسر بن نحر، وهو يقول:
* قد علمت خيبر أنّي ياسر * شاكي السلاح بطل مغاور *
* إذا الليوث أقبلت تبادر * وأحجمت عن صولتي المغاور *
* إنّ حمائي فيه موت حاضر *
وهو يقول: هل من مبارز؟ فخرج إليه الزبير بن العوّام، وهو يقول:
* قد علمت خيبر أنّي زبار * قرم لقرم غير نكس فرار *
* ابن حماة المجد ابن الأخيار * ياسر لا يغررْك جمع الكفّار *
* وجمعهم مثل السراب الحبار *
فقالت أُمّه صفية بنت عبد المطّلب: أيقتل ابني يا رسول الله؟ فقال: «بل ابنك يقتله إن شاء الله» ثمّ التقيا، فقتله الزبير، فقال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجنا مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله عليه السلام برايته، فلمّا دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل من اليهود، فطرح ترسه من يده، فتناول علي باباً كان عند الحصن، فتترّس به عن نفسه، فلم يزل في يده، وهو يقاتل حتّى فتح الله تعالى عليه، ثمّ ألقاه من يده حين فرغ، فلقد رأيتني في نفر سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب، فما نقلبه.
ثمّ لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح الحُصون حُصناً حُصناً، ويجوز الأموال حتّى انتهوا إلى حُصن الوطيح والسلالم، وكان آخر حصون خيبر افتتح، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة، فلمّا أمسى النّاس يوم الفتح أوقدوا نيراناً كثيرة، فقال رسول الله: «على أيّ شيء توقدون؟» قالوا: على لحم، قال: «على أيّ لحم؟» قالوا: لحم الحمر الأنسية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اهريقوها واكسروها». فقال رجل: أَوَ نهرّقها ونغسلها؟ فقال: «أو ذاك».
قال ابن إسحاق: «ولمّا افتتح رسول الله عليه السلام القموص حصن بني أبي الحقيق أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حي بن أحطب، وبأُخرى معها، فمرّ بهما بلال، وهو الذي جاء بهما على قتلى من قُتل من اليهود، فلمّا رأتهما التي مع صفية، صاحت، وصكّت وجهها، وحثت التراب على رأسها، فلمّا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أغربوا عنّي هذه الشيطانة». وأمر بصفية، فجرت خلفه وألقى عليها رداءه، فعلم المسلمون أنّ رسول الله قد اصطفاها لنفسه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال لمّا رأى من تلك اليهودية ما رأى: «أَنُزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمرّ بامرأتين على قتلى رجالهما؟» وكانت صفية قد رأت في المنام، وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أنّ قمراً وقع في حجرها، فعرضت رؤيتها على زوجها، فقال: ما هذا إلاّ أنّك تمنين مَلِك الحجاز محمّداً، فلطم وجهها لطمة اخضّرت عينها منها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها أثر منها.
فسألها: «ما هو؟» فأخبرته هذا الخبر، وأتى رسول الله بزوجها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله، فجحده أن يكون يعلم مكانه، فأتى رسول الله برجل من اليهود، فقال لرسول الله عليه السلام: إنّي قد رأيت كنانة يطيف هذه الخزنة كلّ غداة، فقال رسول الله لكنانة: «أرأيت إن وجدناه عندك أقتلك». قال: نعم.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخزنة، فحفرت، فأخرج منها بعض كنزهم، ثمّ سأله ما بقي، فأبى أن يؤدّيه، فأمر به رسول الله الزبير بن العوّام. فقال: «عذّبه حتّى تستأصل ما عنده».
فكان الزبير يقدح بزنده في صدره حتّى أشرف على نفسه، ثمّ دفعه رسول الله إلى محمّد ابن مسلمة، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة، وكانت اليهود ألقت عليه حجراً عند حصن ناعم، فقتله، كان أوّل حصن افتتح من حصون خيبر.
قالوا: فلمّا سمع أهل فدك بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، بعثوا إلى رسول الله أن يسترهم ويحقن لهم دماءهم ويخلّوا له الأموال، ففعل، ثمّ إنّ أهل خيبر سألوا رسول الله أن يعاطيهم الأموال على النصف ففعل على إنّا إن شئنا فخرجنا أخرجناكم، وصالحه أهل فدك على مثل ذلك، وكانت خيبر فيئاً للمسلمين، وكانت فدك خالصة لرسول الله عليه السلام لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب.
فلما اطمئنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم، شاة مصلية، وقد سألت، أي عضو من الشاة أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها السمّ، وسمّت سائر الشاة، ثمّ جاءت بها، فلمّا وضعتها بين يدي رسول الله، تناول الذراع، فأخذها، فلاك منها مضغة، فلم يسغها، ومعه بشر بن البراء بن معرور، وقد أخذ منها كما أخذ منها رسول الله، فأما بشر فأساغها، وأمّا رسول الله فلفظها، ثمّ قال: «إنّ هذا العظم ليخبرني أنّه مسموم». ثمّ دعاها، فاعترفت، فقال: «ما حملك على ذلك؟» قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان نبيّاً فسيخبر، وإن كان ملكاً استرحت منه. قال: فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات بشر بن البراء من أكلته التي أكل.
قال: ودخلت أُم بشر بن البراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم تعوده في مرضه الذي توفى فيه، فقال: «يا أُمّ بشر ما زالت أكلة خيبر التي أكلت بخيبر مع ابنك تعادني، فهذا أوان انقطاع أبهري».
وكان المسلمون يرون أنّ رسول الله مات شهيداً مع ما أكرمه الله تعالى به من النبوّة. {وأخرى} أي وعدكم فتح بلدة أُخرى. {لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} حتّى يفتحها عليكم، وقال ابن عبّاس: علم الله أنّه يفتحها لكم. واختلفوا فيها، فقال ابن عبّاس وعبد الرّحمن بن أبي ليلى والحسن ومقاتل: هي فارس والروم.
وقال الضحّاك وابن زيد وابن إسحاق: هي خيبر، وعدها الله تعالى نبيّه قبل أن يصيبها، ولم يكونوا يذكرونها ولا يرجونها، حتّى أخبرهم الله تعالى بها. وهي رواية عطية، وماذان، عن ابن عبّاس، وقال قتادة: هي مكّة. عكرمة: هي خيبر. مجاهد: ما فتحوا حتّى اليوم. {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً}.


{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)}
{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الذين كفَرُواْ} يعني أسد، وغطفان، وأهل خيبر، وقال قتادة: يعني كفّار قريش {لَوَلَّوُاْ الأدبار ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * سُنَّةَ الله} أي كسنّة الله {التي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ} في نصرة أوليائه، وقهر أعدائه {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً * وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ} وهو الحديبية {مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} الياء أبو عمرو، وغيره بالتاء، واختلفوا فيهم، فقال أنس: إنّ ثمانين رجلاً من أهل مكّة هبطوا على رسول الله وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الفجر عام الحديبية ليقتلوهم، فأخذهم رسول الله سلماً، وأعتقهم، فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ}... الآية. عكرمة، عن ابن عبّاس، قال: إنّ قريشاً كانوا بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله عام الحديبية ليصيبوا من أصحابه أحداً، وأُخذوا أخذاً، فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم، وخلّى سبيلهم، وقد كانوا يرمون عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة، والنّبل فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ}... الآية.
وقال عبد الله بن المغفل: كنّا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحديبية في أصل الشجرة وعلى ظهره غصنٌ من أغصان تلك الشجرة، فرفعته عن ظهره، وعليّ بن أبي طالب بين يديه يكتب كتاب الصُلح، وسهيل بن عمرو، فخرج علينا ثلاثون شابّاً عليهم السّلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا رسول الله عليه السلام، فأخذ الله بأبصارهم، فقمنا إليهم، فأخذناهم، فخلّى عنهم رسول الله، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال مجاهد: أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم معتمراً، وأخذ أصحابه ناساً من أهل الحرم غافلين، فأرسلهم النبيّ صلى الله عليه وسلم فذلك الإظفار ببطن مكّة، وقال قتادة: ذُكر لنا أنَّ رجلاً من أصحاب رسول الله يقال له: زنيم اطّلع الثنية من الحديبيّة، فرماه المشركون بسهم، فقتلوه، فبعث رسول الله خيلاً، فأتوا باثني عشر فارساً من الكفّار، فقال لهم نبيّ الله: «هل لكم عليَّ عهد؟ هل لكم عليَّ ذمّة؟». قالوا: لا، فأرسلهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال ابن ايزي، والكلبي: هم أهل الحديبية، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا خرج بالهدي وانتهى إلى ذي الحليفة، فقال له عمر رضي الله عنه: يا نبي الله تدخل على قوم لك حرب بغير سلاح، ولا كراع؟ قال: فبعث إلى المدينة، فلم يدع فيها كراعاً ولا سلاحاً إلاّ حمله، فلمّا دنا من مكّة منعوه أن يدخل، فسار حتّى أتى منى، فنزل منى، فأتاه عينه أنّ عكرمة بن أبي جهل قد خرج عليك في خمسمائة، فقال لخالد بن الوليد: «يا خالد هذا ابن عمّك قد أتاك في الخيل».
فقال خالد: أنا سيف الله، وسيف رسوله، يا رسول الله، أرمِ بي حيث شئت، فيومئذ سمّي سيف الله، فبعثه على خيل، فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتّى أدخله حيطان مكّة، ثمّ عادوا في الثانية، فهزمه حتّى أدخله حيطان مكّة، ثمّ عاد في الثالثة فهزمه حتّى أدخله حيطان مكّة، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} إلى قوله: {عَذَاباً أَلِيماً} فكفّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لبقايا من المسلمين كانوا بقوا فيها من بعد أن أظفره عليهم كراهية، أن تطأهم الخيل بغير علم.

1 | 2